تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 465 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 465

465 : تفسير الصفحة رقم 465 من القرآن الكريم

** وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللّهِ وُجُوهُهُم مّسْوَدّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ * وَيُنَجّي اللّهُ الّذِينَ اتّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسّهُمُ السّوَءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه, تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف, وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة قال تعالى ههنا: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله} أي في دعواهم له شريكاً وولداً {وجوههم مسودة} أي بكذبهم وافترائهم وقوله تعالى: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ؟} أي أليست جهنم كافية لهم سجناً وموئلاً لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس من نار الأنيار ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال». وقوله تبارك وتعالى: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله {لا يمسهم السوء} أي يوم القيامة {ولا هم يحزنون} أي ولا يحزنهم الفزع الأكبر بل هم آمنون من كل فزع مزحزحون عن كل شر نائلون كل خير.

** اللّهُ خَالِقُ كُـلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لّهُ مَقَالِيدُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ اللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونّيَ أَعْبُدُ أَيّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشّاكِرِينَ
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته, وقوله عز وجل: {له مقاليد السموات والأرض} قال مجاهد: المقاليد هي المفاتيح بالفارسية, وكذا قال قتادة وابن زيد وسفيان بن عيينة, وقال السدي {له مقاليد السموات والأرض} أي خزائن السموات والأرض, والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولهذا قال جل وعلا: {والذين كفروا بآيات الله} أي حججه وبراهينه {أولئك هم الخاسرون} وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريباً جداً وفي صحته نظر ولكن نحن نذكره كما ذكره فإنه قال حدثنا يزيد بن سنان البصري بمصر حدثنا يحيى بن حماد حدثنا الأغلب بن تميم عن مخلد بن هذيل العبدي عن عبدالرحمن المدني عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} فقال «ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان» قال صلى الله عليه وسلم: «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده, أستغفر الله ولا قوة إلا بالله, الأول والاَخر والظاهر والباطن, بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالاً ستاً: أما أولاهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطى قنطاراً من الأجر, وأما الثالثة فترفع له درجة في الجنة, وأما الرابعة فيتزوج من الحور العين, وأما الخامسة فيحضره اثنا عشر ملكاً, وأما السادسة فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور, وله مع هذا يا عثمان من الأجر, كمن حج وتقبلت حجته واعتمر فتقبلت عمرته فإن مات من يومه طبع عليه بطابع الشهداء» ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد به مثله وهو غريب وفيه نكارة شديدة والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ؟} ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ؟ * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} وهذه كقوله تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}. وقوله عز وجل: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك.

** وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسّمَاوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ
يقول تبارك وتعالى: {وما قدروا الله حق قدره} أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته, قال مجاهد: نزلت في قريش, وقال السدي: ما عظموه حق تعظيمه, وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوا, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {وما قدروا الله حق قدره} هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم. فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره, ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الاَية الكريمة والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمراراها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال البخاري قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع, والشجر على أصبع, والماء والثرى على أصبع, وسائر الخلق على أصبع فيقول أنا الملك, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} الاَية ورواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع من صحيحه والإمام أحمد: ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما كلهم من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه, وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على أصبع والسموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع, قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال وأنزل الله عز وجل {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر الاَية, وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به, وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء على ذه ـ وأشار بالسبابة ـ والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ـ كل ذلك يشير بأصابعه ـ قال فأنزل الله عز وجل {وما قدروا الله حق قدره} الاَية وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن الصلت أبي جعفر عن أبي كدينة يحيى بن المهلب عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر. وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على أصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك» تفرد به أيضاً من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية ذات يوم على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر «يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم» فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرنّ به وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم زاد مسلم ويعقوب بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما به نحوه. ولفظ مسلم عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله تبارك وتعالى سمواته وأرضيه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البزار: حدثنا سليمان بن سيف حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا عباد المنقري حدثني محمد بن المنكدر قال حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية على المنبر {وما قدروا الله حق قدره ـ حتى بلغ ـ سبحانه وتعالى عما يشركون} فقال المنبر هكذا فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم, ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال صحيح. وقال الطبراني في المعجم الكبير حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي حدثنا حيان بن نافع عن صخر بن جويرية حدثنا سعيد بن سالم القداح عن معمر بن الحسن عن بكر بن خنيس عن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم: «إني قارىء عليكم آيات من آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها صلى الله عليه وسلم من عند {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال صلى الله عليه وسلم: «إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك» هذا حديث غريب جداً, وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضاً حدثنا هاشم بن زيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن رجل ما عمل بسوء أبداً: لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم وقبضت السموات بيدي ثم قبضت الأرضين ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له لملك دوني فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوها وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها ولكن عمداً غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون وقد بينته لهم» وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة والله أعلم.